انقلاب يحل الحزب ويفضي بأربكان إلى السجن
نجح نجم الدين أربكان في السادس من أيلول (سبتمبر) 1980 من تنظيم تظاهرة باسم حزب السلامة الوطني، في مدينة قونيه التركية، شارك فيها أكثر من نصف مليون تركي، وكانت هذه المسيرة بمناسبة يوم القدس العالمي، وهتف المتظاهرون خلال مسيرتهم بشعارات إسلامية معادية للاحتلال الإسرائيلي.وبعد ذلك بيوم واحد فقط؛ كانت الإذاعة التركية تذيع البلاغ رقم 1، الذي يعلن عن انقلاب عسكري بزعامة الجنرال كنعان إيفرين، ولم يمض يومان من هذا الانقلاب حتى صرح قائده بأن الجيش تدخل ليوقف المد الإسلامي، وليوقف "روح التعصب الإسلامي الذي ظهر في مظاهرة قونية". وكانت مجلة "نيوزويك" الأمريكية قد نشرت على غلاف عددها الصادر في أعقاب هذا الانقلاب صورة لقائد الانقلاب مع تعليق يقول "بساطير العسكر توقف المد الإسلامي في تركيا".ومن فورهم؛ اقتاد جنرالات الانقلاب في تركيا أربكان وعددا من رجاله إلى السجن، بتهم متعددة؛ من بينها العمل على استبدال مبادئ تقوم على أساس الإسلام بقوانين الدولة العلمانية، وهو ما كان كافيا لأن يحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات وأخرجته من الحلبة السياسية التي أصبح العسكر يمسكون بها مباشرة.من هامش العسكر إلى قمة صناعة القرار
التعديلات القانونية التي أجريت في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي؛ أتاحت لأربكان أن يعمد إلى تأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم "حزب الرفاه". وكما هو متوقع؛ واجه الحزب سلسلة من مذكرات الاتهام والادعاء من قبل عدد من المحاكم التركية، إلا أنه استطاع بعد سنوات من تأسيسه؛ الحصول على 185 مقعدا في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1996، ليصبح الحزب الأكبر في البرلمان التركي.إثر النصر الانتخابي غير المسبوق قام رئيس الجمهورية التركية آنذاك سليمان ديميريل بتوجيه كتاب خطي لنجم الدين أربكان، بصفته زعيم أكبر حزب في البرلمان، لتشكيل حكومة تركية جديدة، فشكل أربكان حكومته بالتآلف مع حزب "الطريق القويم" الذي كانت تقوده تانسو تشيلر.وسريعا طفت على السطح حالة التوتر بين حكومة أربكان الأولى من نوعها في تركيا منذ عهد أتاتورك؛ وجنرالات الجيش التركي، الذي يُنظر إليه على أساس أنه حامي مبادئ الجمهورية العلمانية.وتمثلت هذه الحالة بالهجمات الصحفية والإعلامية الضارية ضد الحكومة، وعلى الجانب المقابل كان على أربكان وحزبه التصدي لحملات التهديد والوعيد، ففي تصريح أدلى به أربكان في الثاني من تشرين ثاني (نوفمبر) 1997، وفسره المراقبون على أنه بمثابة رسالة تحدٍ لجنرالات العلمانية؛ أكد أربكان عزم حكومته على بناء مسجد ضخم في ميدان تقسيم في إستانبول، حيث ينتصب أكبر تمثال لأتاتورك، فضلا عن تشييد مسجد آخر في أنقرة في منطقة شانكايا التي تحتضن مقار مؤسسات الجمهورية العلمانية الرسمية.وانتهت محاولات جنرالات الجيش التركي إلى لجم حزب الرفاه وزعيمه أربكان، بضعضعة الائتلاف مع حزب الطريق القويم بزعامة تشيلر، فأدى انفراط الحزبين إلى استقالة الحكومة في أوائل حزيران (يونيو) 1997، وبعد ذلك ببضعة أشهر تقدم المدعي العام بدعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية، مطالبا بحل حزب الرفاه أيضا بتهمة العمل على تغيير النظام العلماني في تركيا.وكان الشهر الأخير من سنة 1997 إيذانا باستعادة التاريخ السياسي لذاته؛ فقد أصدرت المحكمة الدستورية التركية حكما بحل "الرفاه"، وبمنع زعيمه أربكان وعدد من رجاله من العمل السياسي لمدة خمس سنوات.ولعل المفارقة التي تجسدت في تجربة حكومة أربكان أنها جعلت هذا الزعيم الإسلامي وهو في أوج انتصاره الانتخابي محاصرا بقيود السلطة التي تحرسها حراب العسكر، وتطوقها مؤسسات علمانية متأهبة، وتترصد لها آلة إعلامية مهيمنة على الرأي العام المحلي.وكان من تداعيات ذلك؛ وضع أربكان في موقف لا يحسد عليه، في مواجهة مدارس "إمام خطيب" التي تعد الرافد المتبقي للحالة الدينية في تركيا، علاوة على عجزه عن التأثير على ملف علاقات التحالف المزدهرة بين أنقرة وتل أبيب التي أبرمتها المؤسسة العسكرية.وحتى طموحات أربكان الكبرى، بخاصة التكامل الاقتصادي مع العالم الإسلامي، وإقامة منظمة الدول الإسلامية الثمانية، على غرار "نادي الأقوياء" الثماني الذي يضم كبرى الدول الصناعية؛ لم يكتب له فيه سوى فضل المبادرة التي لم يتسع لها الهامش الزمني، ولا التوازنات الدولية التي تحكم الدول الإسلامية.الإسلاميون يشكلون حزب الفضيلة
لم يكن قرار المحكمة الدستورية بحل حزب الرفاه مفاجئا للإسلاميين، بل كانوا يتوقعونه في أية لحظة، وكان أربكان يخطط لمواجهة هذا الموقف عند حدوثه، فوضع مشروعا لتأسيس حزب يخلف الرفاه في حالة حله.ولما صدر قرار حل حزب الرفاه؛ لم يتمكن أربكان، بسبب منعه من العمل السياسي من تأسيس الحزب الجديد، فقام بتشكيله عدد من قادة الرفاه الذين لم يصدر بحقهم حكم بمنعهم من العمل السياسي، فأسسوا حزبا جديدا أطلقوا عليه اسم "حزب الفضيلة" برئاسة إسماعيل ألب تكين الذي تخلى عن زعامة الحزب لإفساح المجال أمام انتخاب رجائي قوطان رئيسا للحزب في المؤتمر الطارئ للحزب الذي انعقد عام 1998.وجدد الحزب انتخاب قوطان رئيسا له في مؤتمره العام المنعقد في 2000، فنال قوطان 632 صوتا من أصوات المندوبين المشاركين في المؤتمر، مقابل 521 صوتا نالها منافسه عبد الله جول، وكانت هذه المنافسة غير المألوفة أولى بوادر الانشقاق الذي سيظهر فيما بعد في الصف الإسلامي على الساحة الحزبية التركية.وبالطبع واجه حزب الفضيلة ما عانت منه الأحزاب السابقة التي بات وريثا لها، عبر حملات شنتها الصحف ووسائل الإعلام العلمانية، فتمت محاكمة زعيم الحزب بتهمة "معاداة العلمانية". إلى أن تم حله في عام 2001 بقرار من المحكمة الدستورية.حكم جديد يمنع أربكان من العمل السياسي
حرص أركان النظام التركي على تشديد الحصار حول البروفيسور نجم الدين أربكان، ولم يكتفوا بالحكم الصادر من قبل بمنعه من العمل السياسي، فقد تم الاتجاه هذه المرة إلى سد منافذ عودته المحتملة إلى ممارسة العمل السياسي، حرصا على إبقائه بعيدا عن الساحة السياسية.ففي الخامس من تموز (يوليو) 2000، أكدت محكمة التمييز حكما كانت قد أصدرته محكمة أمن الدولة في مدينة ديار بكر بالسجن لمدة عام لأربكان، بتهمة التحريض على "الكراهية الدينية والعرقية"، وحرمانه من العمل السياسي مدى الحياة، واستندت المحكمة في حكمها إلى خطاب قديم كان أربكان قد ألقاه في مهرجان انتخابي في عام 1994.وفي اليوم التالي لقرار محكمة ديار بكر؛ أصدرت المحكمة الدستورية في أنقرة هي الأخرى قرارا بحرمان أربكان من العمل السياسي مدى الحياة، بعد تأكيد محكمة التمييز لحكم محكمة أمن الدولة في ديار بكر.السعادة.. والعدالة والتنمية.. وما بينهما
ويرى الباحث في الشؤون التركية زياد أبو غنيمة أن أحد التطورات الهامة التي شهدتها السنوات القليلة الماضية أعقبت صدور قرار المحكمة الدستورية التركية بحل حزب "الفضيلة". فقد تشكل على أنقاض الحزب المنحل حزبان جديدان، هما حزب "السعادة" بزعامة رجائي قوطان، وحزب "العدالة والتنمية" بزعامة رجب طيب أردوغان رئيس بلدية إستانبول.وفي الانتخابات التي جرت عام 2002، اكتسح حزب العدالة والتنمية الانتخابات، وحصل على 363 مقعدا من أصل 550 مقعدا هي مقاعد المجلس النيابي، فيما أخفق حزب "السعادة" في الدخول إلى البرلمان حينما لم يتمكن من الحصول على نسبة 10 في المائة من أصوات الناخبين.وبهذا تكون قد تبلورت تجربة سياسية جديدة لقطاع من "تلاميذ أربكان"، وإن كان خارج عباءته هذه المرة، لتكون التجربة مفتوحة على آفاق عدة، وعلى موعد مع ضمور كبير لمعالم الخطاب الإسلامي الذي كان متبعا في سلسلة الأحزاب السابقة التي جرى حظرها.أما نجم الدين أربكان الذي تجاوز الكثير من الخطوط الحمر خلال تاريخه السياسي الحافل؛ فهو ما زال على الجانب الآخر متمسكا بما يعتقد أنه الهوية الأصيلة لتركيا، وهي الإسلام وليست العلمانية.وحتى عندما يبدو من المرجح أن يقضي الرجل الثمانيني سنوات إضافية من حياته الممتدة في السجون؛ يكون من المؤكد أن بصماته تبقى حاضرة بقوة في المشهد السياسي التركي، وقد تكون لها تفاعلاتها في إطار أية حالة عامة مرشحة لتطورات في بلاد السقف المنخفض للديمقراطية.