هناك عادات تكتسب صفة الديمومة والتطور مع مرور الزمن، ومن هذه التقاليد الجميلة التي كانت راسخة في وجدان الشعب المصري و يحفظ منها الذكريات الدافئة الاهتمام بمحمل الحج الذي كان يحوّل شوارع القاهرة إلى عيد بديع، لكن للأسف لم يبق من هذه الاحتفالية التي كان يهتم بها المجتمع المصري بشقيه المدني والرسمي لإنجاحه والحفاظ على استمراره إلا الذكريات الحميمة، لأنها توقفت في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. إلا أن أصداءها وأجواءها لا تزال حاضرة وحية.
ان أول من احتفى بالمحمل احتفاءً كبيراً هو الملك الظاهر بيبرس البندقداري فقد كان يحتفل بعرض كسوة الكعبة قبل الاحتفال بالمحمل بيوم، ومن ثم صار تقليداً يقوم به ملوك مصر وسلاطينها كل سنة. كسوة المحمل خالية مع هيكله الخشبي لا تقل عن 14 قنطاراً، وصار ما كان يحمل على الجمل من الهدايا يحمل في صناديق على جمال أخرى تسير مع الحملة.. كان يحتفل بالمحمل يوم خروجه من مصر في موكب الحج احتفالاً كبيراً، يسير فيه الجند وحرس المحمل وخدمه، يتقدمهم أمير الحج، كما كان يحتفل بعودته من الحجاز. وكانت للمحمل مظاهر احتفالية جميلة، أبرزُها الاحتفال بكسوة الكعبة، وهو الاحتفال الذي كان يسبق سفره إلى الأراضي المقدسة، حيث يُقام حفلٌ رسمي كبير في ميدان «الرميلة» بالقرب من القلعة، ويحرص على مشاهدته جميع سكان القاهرة وزوارها من الأقاليم، وفيه يتسلم أمير الحج الكسوة الجديدة التي تضم السجادة التي تُزيَن بها الكعبة، وكسوة المقام الإبراهيمي، وستارة باب التوبة من مسؤول دار الكسوة الموجودة بحي الخرنفش بالجمالية، وذلك بحضور كبار مسؤولي الدولة وأمير المحمل. وبعد ذلك يتحرك الجميع في موكب رسمي كبير يتقدمه أمير المحمل وخلفه الجمل الذي يحمل الكسوة، وقد نقشت على قماش الهودج آيات قرآنية ورسوم زخرفية مطرزة بخيوط من الحرير الذهبي، فوق أرضية من الحرير الأخضر والأحمر والأسود.
كما يزين رأس الجمل بالعقود والشراشيب الملونة. ثم تتبعه الجمال التي تحمل أموال الصرة الشريفة في صناديق مغطاة بقماش مطرز فاخر، وخلفها يسير قضاة المذاهب الأربعة، وجميع أئمة المساجد ورؤساء الطوائف والحرف والمشايخ بأعلامهم وبيارقهم الملونة، وجماعات الدراويش ويطوف الموكب شوارع القاهرة من ميدان «الرميلة».
حيث مكان الاحتفالية، ويتجه إلى «الفسطاط» حتى جامع الحاكم بأمر الله بالقرب من باب النصر، وقد ازدحمت الشوارع بالناس الذين جاءوا من كل مكان لمشاهدة الموكب، وجلس بعضهم على المصاطب أمام الحوانيت، وتجمهرت النسوة فوق أسطح المنازل على امتداد الطريق وهن يطلقن الزغاريد.
وقد عمت الفرحة والبهجة الجميع، وتحول هذا اليوم إلى عيد كبير. ويظل المحمل في جامع الحاكم بأمر الله حتى يوم الرحيل، ثم يبدأ الناس الذين يرغبون في الحج في قيد أسمائهم بديوان الحج.
وبعد الاحتفال بكسوة الكعبة يبدأ أمير المحمل في تجهيز قافلة الحج والمحمل والتي يشارك بها الحجاج الذين يفِدون إلى مصر من بلدان شمال إفريقيا وتركيا، حيث كان يخصص لهم معسكرا خارج القاهرة لحين موعد خروج المحمل.
ويضم المحمل كسوة الكعبة الجديدة والصرة الشريفة، وأمتعة أمير الحج وطعام القافلة، وقرب المياه التي كان يخصص لها عادة ما يقرب من نصف عدد جمال القافلة، البالغ عددهم في الأغلب 500 جمل.
وكان يُخصَصُ جزءٌ من هذه المبالغ الضخمة كرواتب لموظفي المحمل، إذ كان به 42 وظيفة، منها أمير المحمل الذي يقوده للأراضي المقدسة، و«دُوادار أمير الحج» الذي يقدم الدواة لأمير الحج عند توقيع الإمضاءات، ورئيس حرس المحمل المسؤول عن حماية القافلة، و«قاضي المحمل» الذي يحكم بين الحجيج في المنازعات التي قد تنشأ بينهم، و«أمين الصرة المشرفة» التي كانت مصر ترسلها لفقراء مكة، و«إمام المحمل» الذي يتولى إمامة الحجيج في الصلاة وشرح مناسك الحج، و«مشرف جمال المحمل» المسؤول عن رعاية الجمال.
و«البَيْرَقْدارية» وهم حمَلة الأعلام المميزة للمحمل، و«مشرف التموين للمحمل» الذي يتولى شؤون التموين، و«مشرف المطبخ» المسؤول عن الذبائح وتفرقة مخصصات الطعام، و«مشرف السقاءين» الذي يقوم بتوزيع المياه على الحجاج، و«الطبيب» لعلاج المرضى، و«البيطار» لعلاج الجمال، و«الخباز» لتوزيع الخبز بعد عمله على القائمين على شؤون المحمل، و«مبشر الحاج» المسؤول عن التبليغ قبل عودة المحمل للبلاد عن أحوال الحجاج وما حدث بشأنهم من سرقات أو قطع طريق أو وفاة، ويصل عادةً قبل القافلة بأربعة أيام راكبًا هجينًا سريعًا.
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر شوال يبدأ سفر المحمل بعد تجهيزه واختيار موظفيه. ويُقام لذلك احتفالٌ يحضرُه أمير الحج والقضاة وكبار رجال الدولة وتدق الطبول والموسيقى ويكون وصول المحمل إلى المعسكر الذي يتجمع فيه الحجاج المصريون مع أقرانهم من بلدان شمال إفريقيا وتركيا خارج القاهرة، هو إيذانٌ ببدء الرحلة المقدسة. وفي البداية كان المحمل يسافر إلى «السويس»، ثم إلى «قلعة النخل» وسط سيناء، ثم «العقبة»، وبعد ذلك يتجه جنوبًا ويسير بمحاذاة البحر حتى «ينبع» ثم إلى مكة.
وأخذ الحجاج فيما بعد يسلكون طريقًا آخر، فكانوا يسافرون بالمراكب في النيل من «الفسطاط» إلى مدينة «قوص»، ثم يعبرون الصحراء إلى قرية «عيذاب» على ساحل البحر الأحمر، ثم يركبون السفن إلى «جدة».
وكان الحجاج يتعرضون للأهوال في عبور البحر الأحمر، وكانت السفن تغرق بهم أو تجنح إلى سواحل الحجاز؛ فيتعرضون للسلب والنهب من عشائر العُربان. وكانت السلطة في الماضي تخصص الحراسة المسلحة لقوافل الحجاج والتجارة، لصد هجمات عشائر العربان الذين يعيشون على السلب والنهب في الصحراء.
وفي شهر صفر يعود المحمل وقافلة الحجاج، ولا تقل الفرحة والبهجة بعودة المحمل والحجاج سالمين عن يوم السفر من قبل، وتدخل قافلة المحمل والحجاج مدينة القاهرة من باب النصر، وتزدحم الشوارع بالناس الذين يحرصون على الاقتراب من المحمل ولمسِهِ ثلاث مرات، ثم تقبيل أيديهم ومسح وجوههم تبركًا.
ويقوم أهل الحجاج العائدون بتزيين واجهات المنازل بالرسوم والأعلام الملونة، واستقبال الحجاج بالطبول والمزامير والزغاريد، وإقامة الولائم ابتهاجًا بعودة الحجاج سالمين.
محمد الحمامصي