مشوار الدكتور محمود مصطفى يونس بدأ كما يقول من محافظة المنوفية قلب الدلتا المصرية ويذكر أن دراسته في المرحلة الابتدائية لم تشهد تفوقا ملحوظا حيث لم يحرز المركز الأول وكان دائما يحتل المركز الثاني أو الثالث، والمعروف أن محافظة المنوفية من أعلى المحافظات المصرية في مستوى التعليم.
ويتذكر أستاذه محمد الفخراني مدرس المرحلة الابتدائية الذي كان يتعهده برعايته بعدما لاحظ اهتمامه بالدراسة وحرصه على تحقيق التفوق ، وكأي ابن بار قام الدكتور محمود بتقبيل يده اعترافا بجميله وفضله ، وفي الاعدادية التي مثلت المرحلة الانتقالية بالنسبة له من الطفولة إلى الرجولة يقول ان ملامح المستقبل تحددت في هذه المرحلة.. حيث حصلت على الشهادة الاعدادية بتفوق.
ويضيف: ما أثار اندهاش أساتذتي في المرحلة الثانوية اختياري للقسم الأدبي ، وهم على دراية تامة بتفوقي في المواد العلمية، غير أنني كنت أرى المواد الأدبية هي الأحب والأقرب إلى نفسي ويمكنني من خلالها إشباع ميولي في الانضمام إلى كلية الحقوق، وتمكنت من الوصول إلى حلمي وحصلت على الشهادة الثانوية بتفوق وأحرزت المركز الأول على مدرستي، وكنت ضمن العشرة الأوائل على مستوى المحافظة عام 1979م.
وكانت الرغبة الأولى التي سجلها الدكتور محمود في استمارة الرغبات عند التسجيل للجامعة كلية الحقوق، على الرغم من توافر الفرص التي تتناسب مع مجموعه في الثانوية العامة، إلا أنه اختارها لأنها الكلية التي تتناسب مع طموحاته ورغباته الدفينة في إعلاء قيمتي الحق والعدل، وعند انضمامه إلى جامعة القاهرة كان يسكن في المدينة الجامعية التابعة للجامعة والتي تستضيف الطلاب المغتربين من غير المقيمين في محافظة القاهرة وهي قريبة من موقع الجامعة مما سهل له حضور المحاضرات والمناقشات العلمية للرسائل مثل الماجستير والدكتوراه.
ويقول: لعل حضور تلك المنتديات العلمية هيأني من الناحية النفسية لأكون أحد أعضاء هيئة التدريس، خاصة وأن كلية الحقوق لا تعين إلا معيدا واحدا من بين حوالي خمسة أو ستة آلاف طالب وكان التنافس شديدا بين الطلاب للحصول على المنصب العلمي، ولكن بسبب الحفاظ على التفوق على مدار سنوات الدراسة الأربع وحصولي على المركز الأول في السنة النهائية أصبحت مؤهلا للحصول على درجة معيد بالكلية.
وفي الوقت نفسه تم ترشيحي للعمل في عدة جهات منها النيابة العامة ومجلس الدولة والنيابة الإدارية، إلا أني تقدمت لوظيفة وكيل نيابة، ثم اعتذرت لاحقا عن عدم الالتحاق بها لكي لا تضيع الفرصة على زميل آخر يحتاج لهذه الوظيفة، وكانت المغفور لها بإذن المغفور لها بإذن الله والدتي ـ قد اعترضت على ذلك الاختيار لسبب عاطفي ليس إلا ، حيث شهدت وفاة وكيل نيابة في حادث بمحض صدفة.
ويضيف الدكتور محمود: تم تعييني في العام 1984 معيداً في قسم قانون المرافعات المدنية والتجارية بكلية الحقوق، وبعدها التحقت بالتجنيد ، وبعد انتهاء الخدمة العسكرية حصلت على دبلوم القانون العام وكان ترتيبي الأول على المجموعة في العامين المتتاليين.
كما حصلت على شهادة تقدير خاصة لا تمنح إلا للحاصل على المركز الأول في الدبلوم ، وهي شهادة السنهوري باشا للطالب النابغة في القانون المدني المقارن، ثم حصلت على شهادة في القانون الخاص وشهادة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والاحصاء والتشريع عن مادة قانون العمل وكانت باسم الدكتور زكي هاشم بصفته رئيس الجمعية وقتها بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الشهادات مثل شهادة الأول في القانون الدولي والأول في القانون التجاري.
وقامت الكلية بتكريمي بعد حصولي على الترتيب الأول في درجة الماجستير من بين 200 طالب نجح منهم 4 أو 5 فقط، وكانت المكافأة المالية التي حصلت عليها عن شهادة الأول في قانون العمل وقتها 5 جنيهات، والمضحك في الأمر أنني حصلت عليها بعد إنفاقي 4 جنيهات قيمة الانتقال بالسيارة الأجرة من وإلى البنك.
وفي رسالة الدكتوراه اخترت موضوع الحجز التحفظي القضائي وكان من الموضوعات العملية المهمة ، قضيت في القاهرة ما يقرب من العام ونصف العام قبل البعثة الدراسية إلى فرنسا من عام 1989م إلى 1991م وكنت رئيس اتحاد الدارسين في مدينة (رن) الفرنسية ثم قمنا بتكوين الاتحاد العربي للدارسين العرب ورشحت لرئاسته أيضا ، ولكن لم أستمر طويلا، إذ انتهت المدة المخصصة للابتعاث الدراسي وعدت إلى القاهرة.
في فرنسا رفض مسيو جييبو الأستاذ الفرنسي أن أسجل معه موضوع الرسالة وهو الحجز التحفظي القضائي بدعوى أن الموضوع لا يفيد الفقه الفرنسي بالرغم من حاجتنا إليه في الفقه المصري، وأمام إصراري على الموضوع وبعد شرحي أبعاده وأثره على القانون المصري بل والفرنسي، وافق.
واكتمل الشق الفرنسي في الرسالة خلال العام الأول للبعثة ، ثم بدأت أكتب الرسالة خلال وجودي في فرنسا، ومما يجدر ذكره أن المشرع الإماراتي اعتمد النتائج التي توصلت إليها في الرسالة خلال تعديل قانون المرافعات في العام2005 واعتقد أنه كان وقتها سبقا لم تصل إليه دول عربية أخرى.
تأثر الدكتور محمود كثيرا بالثقافة الفرنسية رغم قصر الفترة الزمنية التي قضاها هناك وهذا ما يؤكده، ويضيف: استطعت الاندماج مع الشعب الفرنسي مع احتفاظي بهويتي العربية والإسلامية، وبالمناسبة، تضم فرنسا مجموعات متباينة من أبناء الحضارات الأخرى من الجنسيات الألمانية والصينية والهندية واليابانية ومن أميركا اللاتينية، وغيرها.
واستطيع التأكيد على حدوث اندماج رغم اختلاف الثقافات، وأعتقد أنني نجحت في تقديم الصورة الإيجابية عن الدين والحضارة الإسلامية، وربما كان لذلك أثر طيب حيث قام أحد الطلاب باعتناق الإسلام وهو ينتمي لدولة توجو، ولهذا الطالب قصة تستحق السرد، فقد كان من والد مسلم وأم نصرانية، وكان الشاب يميل لمعتقدات الأم بشكل أكبر نظرا لسوء طباع وخُلُق الأب الذي دأب على الإساءة لهما .
وكان يتصور أن هذه هي القاعدة، وأن كل المسلمين يتشابهون مع والده في الطباع، غير أنه اكتشف خطأ ذلك الاعتقاد عندما تعامل مع غيره من المسلمين، ونجحت في شرح مباديء وأسس العقيدة الإسلامية السليمة له فدخل الإسلام عن قناعة تامة بفضل الله.
ومن المحطات التي لا تنسى خلال رحلة البعثة في فرنسا، يقول د. محمود مصطفى: استضافتني أسرة فرنسية لمدة عامين هي فترة البعثة، وكانت أسرة معتدلة في سلوكياتها على الرغم من الانتماء لمجتمع متحرر، فلا صداقات ولا تناول للمشروبات المحرمة ولا سهرات، وكانوا يحرصون على مشاعري كمسلم أشد الحرص.
وأذكر أنني حضرت ليلة عيد الميلاد هناك، مع العديد من الأسر الفرنسية التي وجهت إليها الدعوة من قبل الأسرة التي تستضيفني، وعلى المائدة وضعوا أمامي 12 نوعا من المشروبات لم يكن من بينها أية مشروبات محرمة.
وبعد عودتي من البعثة حصلت على درجة الدكتوراة بتقدير جيد جدا، وهي أعلى درجة علمية آنذاك ، وواصلت الترقي في سلم هيئة التدريس بالجامعة ، ثم تمت إعارتي لكلية الشرطة في أبو ظبي منذ العام 1994 حتى الآن، وانتدبت للتدريس لطلاب الدراسات العليا بكلية شرطة دبي.
وأيضا للعمل في جامعة العلوم والتكنولوجيا في العين فضلا عن اشتراكي في جميع الندوات والمؤتمرات التي أقامتها وزارة الداخلية، وشاركت ببحث في مؤتمر المساهمة المجتمعية في العدالة الجنائية وآخر عن منع المدين من السفر وأبحاث أخرى عديدة، ومقالات نشرت في المجلات القانونية المتخصصة، وعن أسرته يقول: لدي أربعة أبناء أكبرهم عبد الرحمن (14 عاما) وسارة (11 عاما) ونوران ( 9 أعوام) وأخيرا محمد (5 أعوام).
وعن مشوار الدكتور محمود يقول الدكتور أحمد عبد الظاهر المستشار القانوني لوزارة الداخلية ان المثابرة والإخلاص، والحرص على تحقيق الهدف صفات متأصلة في داخله، وهي السبب الرئيس لنجاحه المتواصل منذ تحقيقه المركز الأول على دفعته بكلية الحقوق، مرورا بعدد كبير من الأبحاث.
بالإضافة إلى درجة الدكتوراة، ومعروف أن الكتب المتخصصة في القانون تتسم بالضخامة حيث يصل عدد صفحات بعضها إلى 1000 صفحة، ومع ذلك كان الدكتور محمود يتحلى بالصبر وطول البال فاستحق ما وصل إليه الآن.
ويرى المستشار جمال عليوة القاضي بدائرة القضاء بأبوظبي أن النشأة الدينية والالتزام السلوكي والأخلاقي والطموح إلى التفوق العلمي والحرص على متابعة الأبحاث العلمية هي الأسباب الحقيقية لنجاح الدكتور محمود في مشواره، علاوة على السمات الشخصية مثل التواضع والهدوء والثبات الانفعالي واحترامه للجميع، كل ذلك أنتج أستاذا مرموقا يحوز عقلية قانونية مرتبة ورؤية واضحة ناضجة.
إضاءة
انتهز د. محمود فرصة إقامته لدى الأسرة الفرنسية لكي يشرح لهم مبادئ الإسلام القائمة على التسامح ، كما شرح نظرة الإسلام المتفاهمة مع الأديان الأخرى ومكانة المسيح عليه السلام لدى المسلمين ومكانة السيدة العذراء مريم ، ولعل أكثر ما فاجأهم تسميته لها بأطهر نساء الأرض ، وكانت أغرب المفاهيم المغلوطة عن الإسلام أنه يمنع المرأة من الصلاة .
كما يفرق في التعامل القانوني والاجتماعي بينهما ، وهذا ما أكدته له سيدة الأسرة التي استضافته ، وحاول تصحيح المفاهيم غير الصحيحة عن الإسلام ، وأكد لها أن الدين الإسلامي يعدل ويساوي بين الجنسين إلا فيما يتعلق بالزواج والمواريث ، وهي أيضا أحكام تصب في مصلحة المرأة وليس العكس.
واهتمت تلك الأسرة الفرنسية بقراءة نسخة المصحف الشريف التي أهداها لهم ، وهي مترجمة إلى الفرنسية ، وحرصوا على استيضاح ما استعصى فهمه ، مما يؤكد حرص الغربيين على فهم الإسلام إذا أتيحت لهم الفرصة