أبو احمد بلغ من العمر 80 عاماً، يواظب على صلاة الفجر، يخرج بعدها متوكئاً على عصاه يقود قطيع الخرفان، يدس في جيب معطفه علبة الدخان المعدنية حيث كان مولعا بنوع من الدخان اللف، يتفنن في لف سيجارته بطقوس خاصة، يقوم بترطيب «التتن» في قطعة القماش ويضعها داخل العلبة المعدنية ومعها ولاعة عبارة عن فتيل من القطن وحجر يقدح الشرار فيشتعل الفتيل، وقد علت شاربيه صفرة اللون من كثرة التدخين.
يأخذ النفس الأول يتبعه بموجة من السعال يردد بعضاً من العتابا وأبيات الشعر الشعبي وجرس الكبش الذي يقود القطيع يضفي على الجو موسيقى تصويرية من دون ملحن أو عازف، فالكبش ذو القرنين المفتولين هو قائد الأوركسترا يتجول مختالاً بين النعاج يتابعه بابتسامة، يتذكر أيام كان له ثلاثة من النساء.
ذات يوم شعر بوهن في جسده وصدت نفسه عن الطعام، عرض عليه ابنه أخذه للدكتور وقال لا داعي إنها وعكة بسيطة بسبب البرد سوف يعالجها بالنعناع والبابونج واليانسون، أصر الابن وخرج أبو أحمد لأول مرة من قريته إلى المدينة، قاس الطبيب الضغط وقال له ضغطك شباب، هل لديك سكري ..؟
فرد أبواحمد الحمد لله السكر متوفر والشاي لا نستغني عنه، ضحك من رد أبو احمد فهو لم يسمع بمرض اسمه سكر الدم، وما أن وضع السماعة على الصدر حتى سمع أصوتا كأنها موسيقا القوات المسلحة قال الدكتور: هنا المشكلة يا حاج، صدرك تعبان، هل أنت مدخن..؟
ضحك وقال: منذ 60 عاماً ولم أغير دخاني، وماذا تأكل..؟ حليب النعاج والتمر والسمن العربي والبيض البلدي واللحم الضان وخبز الحنطة والخضرة حسب الموسم، هز الدكتور رأسه: يجب أن تتوقف عن التدخين وأكل السمن واللحوم، هز أبو أحمد رأسه وقال: الأعمار بيد الله ما عاد بالعمر شي يسوى.. كتب له الطبيب وصفة العلاج وقال له: هذا دواك وعلى الله شفاك، والنعم بالله.
وضع له ابنه برنامجا غذائياً وسحب منه علبة الدخان، بعد يومين صاح على ابنه وقال له أريد كيلو من اللحم المشوي والكباب وثلاث بيضات بلدي مع السمن العربي ورغيفين من خبز التنور، اعترض الابن وقال إن الطبيب منعك من هذه الأطعمة، غضب أبو أحمد وقال أحضر ما أقول لك، أحضر الابن له ما طلب، افترش الأرض والكباب قد فاحت رائحته وخبز التنور والبيض المقلي بالسمن العربي، أكل بشهية كما لم يأكل من قبل مسح فمه من بقايا الطعام.
وقال: الحمد لله على الصحة والعافية وطلب من زوجة ابنه أن تُحضر له الشاي وتزيد من سكره لأنه يحبه ثقيلاً وحلواً، أخرج من تحت مخدته علبة الدخان وبدأ يلف سيجارته بهدوء ويبصق ذات اليمن وذات الشمال ليتخلص من بقايا ورق اللف التي علقت على لسانه، يسحب المزه الأولى ويتصاعد الدخان وقد غطى ملامح وجهه يرتشف الشاي ويردد بعض أبيات الشعر الشعبي يقول مطلعها «شرابة التتن اليوم بيهم كيف وضاع العمر يا خسارة ويا حيف»..
نهض وطلب من ابنه العودة إلى قريته، حاول الابن إقناعه بموعد الدكتور واستكمال العلاج، ألقى بكيس الأدوية جانبا وقال: الحمد لله على الصحة والعافية، دكتوركم يريد ان يحرمني لذة الطعام والشراب والدخان، خرج يتوكأ على عصاه يحاول إخفاء انحناء ظهره الذي أعياه تعب السنين، مضت 10 أعوام وأبو احمد يتابع حركات الكبش كل يوم ويشرب الحليب والسمن العربي وخبز التنور ولم تفارقه علبة دخان وذات يوم من أيام رمضان الكريم ورغم نصحه بعد الصوم، أصر على الصيام.
وعندما حان موعد صلاة العصر نهض وتوضأ.. رفع يديه إلى السماء يدعو: اللهم لك الحمد على نعمتك التي أنعمت وأحييتني إلى رمضان، اللهم اغفر وارحم فأنت الأعز وأنت الأكرم، فجأة سقطت العصا من يده تراكض أهل الدار يتصايحون، رفع ابنه يده ليتأكد من نبضه فوجده قد رفع سبابة إصبعه اليمنى وعلت وجهه هالة من ضياء ونور، في اليوم الثاني جاءوا بالكبش ونحروه فدية على روح الحاج ابو أحمد، صمت أبو احمد وسكت طنين جرس الكبش ولم يكسر الصمت إلا ثغاء النعاج..
داوود محمد