لا أكشف سراً حين أقول إنني لم أخرج إلى الدنيا بشوارب، وكنت طفلاً أكره أو أخاف أو أتحاشى بعض الناس، على رغم أنهم لم يخطئوا معي لكنهم لم يدركوا أنني امرؤ فيني جاهلية، مثل كل أطفال و"جهّال" العالم ينظر في عيني أحدهم لألف سبب بريء، فربما كان محروماً من الذرية، أو كان يتصفّح ملامحي ويقول "سبحان الله كم يشبه أباه"، أو كان يحبني "لله في لله"، لكنني كنت أضع عينيه نصب عيني طويلاً: ماذا كان يقصد ذلك اللعين؟ هل كان يستدرجني بنظراته؟ هل نظرة فابتسامة.. وهلم جرا؟
يقول أحدهم أي كلمة، مثلاً "ما شاء الله كبرت"، لكن خيالي يركّب كلمات قبل كلماته وبعدها، فتصبح "كلمات ليس كالكلمات" وتتحول إلى جملة تفيد شيئاً جريئاً، ويصبح قائلها الذي لم يقلها حقيقة، رجلاً شريراً أتوخى الحذر منه.
أما اللمس، فيوقظ كل شياطين الخيال في رأسي، فإذا ربّت على كتفي، أقول: لماذا الكتف وليس الرأس؟ وإذا فعلها على الرأس قلت: اليوم الرأس وغداً (..)؟ وإذا تجاوزت المصافحة المدة العادية، فاهرب بجلدك يا ولد.
وكان أحد أقاربنا يشتري لنا في العيد طائرات ورقية أو مكعّبات التركيب بدلاً من أن يعطينا دراهم نبعثرها في علب الكولا والشيبس، لكنني وأخوتي كنا نعتبره بخيلاً، فلا شيء يثبت أنه كريم ومعطاء غير الفلوس. ومازلنا نتذكّر "عيديته" صباح كل عيد ونضحك، ولايزال الرجل في نظري بخيلاً، لكن لم يرد اسمه في كتاب البخلاء، لأن الأمر أصبح منقوشاً في ذاكرتي. وإذا حصل أن أهداني اليوم برجاً على شارع الشيخ زايد، سأقول: كم هو كريم الرجل البخيل!
ومساكين كل من أمطروني بوابل من النصائح الثمينة، لأنني كنت أمطرهم بوابل من اللعنات الخفية، وفور خروجي من المكان، كنت أشير بإصبعي تجاههم بحركة يعاقب عليها القانون، خصوصاً في أول المراهقة.
هذه كانت تجربتي باختصار مع الكبار، أعرضها ليستفيد منها من يتعامل مع الأطفال، حتى لو كانوا من أقاربه، فالجهل الذي يعشش في رؤوسهم لا يوفّر أحداً، خصوصاً إذا كان الواحد منهم يعيش مع أخوة أكبر منه، أو يلتقي أطفالاً يكبرونه، فهم الذين يلوّثون براءة تفكيره بتجاربهم ونصائحهم، ويصبح طفلاً ملغوماً بالخيال المرضي، ويصبح خياله قابلاً للانفجار كلما تعرض شخصياً لمواقف حقيقية.
إليكم طريقتي المثلى مع الأطفال الجهلاء، فأنا لا أنظر في عيونهم، وماذا يفيدني لو عرفت أن الولد يشبه أباه أو يشبه البقّال؟ وأحاول قدر الإمكان بلع لساني أمامهم، "سلام وعليكم السلام" وأقول جملاً واضحة وبسيطة غير قابلة للتأويل أو التحوير.
وممنوع عليّ لمس أي طفل في العالم حتى لو رأيته يغرق في المحيط وحيداً وأنا أبحر في سفينة بحجم تايتانك، فعلى الأقل لو تركته ولم ألمسه، سيموت وهو يظن بي خيراً.. ما فائدة أن يعيش ثم يتذكرني حين جذبته من يده وأركبته السفينة، ويظل يتذكّر المشهد إلى أن تصبح عقدة كبيرة تؤلم بلعومه؟
ولا وألف لا للتصرفات الحكيمة كالهدايا بدلاً من دراهم "العيدية". لماذا أكون أحمقاً في نظرهم أو بخيلاً، حتى لو ثبت لهم العكس بعد أن يكبروا؟ لماذا أنقش هذه الصفات عني في ذاكرتهم؟ علي أوفّر حكمتي لعيالي، صحيح أنهم يرونها حمقاء الآن، لكنهم سيعرفون حين يكبرون ولن يضحكوا علي.
وإياني والنصائح، لا أنصح أحداً حتى من أكون خالاً أو عمّاً لهم، افعلوا ما شئتم فأنا مجرد متفرج، فلم أنصحه فيكرهني ويطعنني في ظهري بحركة بذيئة خصوصاً أن نصائحي ستذهب أدراج رياح المراهقة؟ وإن كان لا بد من النصيحة، فبعد تغليفها بنكتة أو حكاية.
التعامل مع طفل أخطر من التعامل مع مجنون يحمل سكيناً ملطخة بالدماء، فعلى الرغم من أنه حَمل وديع لكنه جاهل لا يفسّر الأمور بطريقة سليمة، ولم تأت تسميات مثل "ياهل" أو "عيّل" من فراغ