في زيارة شبابية لدولة عربية وكان عددنا سبعة، ثامننا "صايعنا"، اقترح علينا أن نسهر في ملهى. أخذ قلبي يقفز فرحاً، فمنذ أول يوم في المراهقة وأنا أتابع إعلانات الملاهي في الجرائد والحسرة تحرق قلبي، لكن الأغلبية رفضت هذا الاقتراح المشين، وكنت من المنددين، إلا أننا سمحنا له بمحاولة إقناعنا، فقال: نحن لا نفكّر أبداً في زيارة ملاهي البلاد، فقد يرانا أحدهم ويذيع خبرنا: "استقبل ملهى الهزّ العربي السادة فلان وفلان الذين أخذوا يتقافزون فوق المنصة وينثرون أوراقاً من فئة الخمسة دراهم على رؤوس الراقصات". وفوق هذا، يعتبر مجتمعنا روّاد الملاهي من كفار قريش.. لكننا لم نقتنع.
تدخل الشيطان بنفسه وقال متفلسفاً: التجربة خير برهان، ولا أحد "يصيع" من مرة واحدة، وملايين الناس "تملهوا" وخرجوا من الملهى لم يمسّهم إلا رائحة الذنوب التي يمكن إزالتها بعطور الصدقة.. والأهم من هذا يا أباليسي الصغار أنكم جماعة، وسيضيع دم الإثم بينكم.
لم يصدّق سائق الباص الذي استأجرناه أننا أصبحنا سائحين عرباً، إلا بعد أن سألناه على استحياء عن ملهى، فمنذ أيام ونحن من متحف إلى مكتبة إلى مسجد أثري إلى مطعم، ونسأله عن أشياء لا تهم السائح العربي عادة، لدرجة أن أحدنا سأله: يا معلم، أين يمكن أن أضع شبشبي لدى زيارة المسجد الأثري؟ وهو يجيبنا بقرف خفي ويلمّح أن هناك أشياء أخرى في البلد. ولا يُلام في هذا، لأنه لن يستفيد قرشاً من المتحف، لكنه سيحصل على المقسوم من الملهى إذا زوّدهم بـ"الدفيعة".
كنا الفوج الأول في الملهى، فأبناء الملاهي يعرفون متى يبدأ العمل الجاد، بينما نحن لا نعرف ونتعجل ممارسة التجربة كما أوصانا اللعين. أجلسونا على أقرب طاولة من المنصة، وتعجبوا من طلباتنا: ماء، كولا، عصير أناناس، سلطة فواكه، فستق. وكلما دخل فوج، نظروا إلينا بدهشة، لأن عددنا كبير ونحتل أفضل طاولة، ولا بد أنهم كانوا يتهامسون: "هؤلاء هم أسياد الصياعة".
عرفت إدارة الملهى بفضل السائق هوياتنا، فأخذت الراقصة تغني أغنية عن الإمارات وهي تتمايل وتقترب منا بشكل إغرائي، وأعوانها في الفرقة ينظرون إلينا ببلاهة، بينما الضجيج أشعرنا كأننا نجلس داخل السماعات، وأصبح النظر إلى الندل الواقفين على رؤوسنا خطراً، لأنهم ينحنون ليسجلوا طلبات جديدة وبالتالي المزيد من الأرقام في الفاتورة.
أخذنا ننظر إلى بعضنا بعضاً ونضحك، ونتظاهر بأننا أسياد الملاهي فعلاً، فمثلاً كنت أحكّ رأسي "أي كلام"، فالرجل محترف والدليل أنه يحكّ رأسه بلا مبالاة. وكنت أسأل نفسي: هل هذا هو المكان الذي كنت أحلم به منذ عشرين سنة؟
كانت الطامة مع نزول الراقصة والطبّال وعجوز "يهشّك" بحلقة معدنية إيقاعية تسمى "الرنّة" أو "الفقّيشات" مربوطة بإصبعين في كل يد، وذهابهم إلى طاولة خليجي عجوز استقبلهم مترنحاً. كان المنظر مأساوياً أخلاقياً، فالراقصة تضع أشياءها وهي تهتز بين يدي الخليجي، والطبّال ينحني بظهره وهو يدق، والعجوز الهشّاك يقرّب الرنّة من جيب الخليجي يستحث النقود لتخرج، كما يفعل الهنود بالمزامير لتخرج الأفاعي، وكلما توقف الخليجي عن إخراج المزيد، استحثه العجوز ليفعل.
حاول أحدنا دخول الجوّ، فأخذ يصفّق والسيجارة متدلية من فمه كدليل احتراف، وبعد لحظة توقف وراح يمسح دموع الدخان الذي دخل عينيه. ابتسم آخر للراقصة التي لم تصدّق وأخذت تقترب منا ومعها خبير استخراج النقود، فرجوناه ألا يبتسم.
مع تأكدنا أن هذا المكان لا يناسبنا، انقلب تظاهرنا بالمرح إلى وجوم، وأصبح وجودنا عبئاً على الملهى، فعدا عن أشكالنا التي توحي أننا في مأتم، كنّا سبباً في كآبة باقي الأفواج، فكيف يمارسون انحرافهم وأمامهم كتيبة من الملتزمين أخلاقياً الذين يريدون فقط مشاهدة الانحراف؟ وفوق هذا، كيف ينتشون بكؤوس الويسكي والبيرة ونحن نقشّر البرتقال وننظر إليهم بازدراء؟
خرج نصف فريقنا بعد قليل بسبب الشعور بالحقارة، وكانت مهمة من بقوا القضاء على ما تبقى من بطيخ وفستق، ودفعنا الحساب كما لم ندفع طوال الرحلة، فسعر سهرة واحدة مع عصائر وفواكه، يساوي قيمة كباب وكفتة وزيارة أماكن بريئة لمدة ثلاثة أيام.
شعر الجميع بالارتياح مع اقتراب خروجنا، فطاولة يجلس عليها خليجيون طلبوا أغنية عن بلادهم، وما إن بدأت الأغنية، حتى أخذوا يتقافزون مثل القرود فوق المنصة والعجوز ينقّب عن الفلوس في جيوبهم، ثم طلبت طاولة خليجيين آخرين، ثم طاولة بلد عربي نفطي، بينما بقيت طاولة الحزن الإماراتية خالية إلا من قشور البرتقال.